الأربعاء، 13 أغسطس 2014

دروس فردية من المقاومة الغزية

بالتأمل فترة في انتصارات المقاومة في غزة، والسيرة القسّامية في المجمل، بيّن الله لي دروسا وعبرا أحببت أن أشارك بها للعلم والعمل. ووصف الدروس بالفردية في هذا المقام، يعني أنها دروس يمكن لكل قارئ أن يفيد بها فردا، ليرتقي في دينه ودنياه بعون الله تعالى.
الدرس الأول: ملتفت لا يصل
ظهر الشيخ عز الدين القسام في وقت عامر بالتحديات العسكرية والسياسية والدعوية في فلسطين، وفي وقت كان التوجه العام منقسما بين الاحتجاجات أو المفاوضات، فهدى الله بصيرته إلى أن الاكتفاء بالإضرابات والتظاهرات الاحتجاجية لن يخلف إلا الشهداء والمعتقلين على المدى البعيد، في حين يمضي المحتلون قدما في مخططهم، وهم في حماية أولئك أنفسهم الذين يتوسطون للمفاوضات، في مسرحية هزلية تاريخية تتجدد أبدا. ومن ثَم آمن تماما بضرورة التوجه للحل العسكري والمقاومة المسلحة، وأوقف نفسه لهذه المهمة: إعداد طلائع المجاهدين ونواة المقاومين الأولى. وهكذا لم ينخرط الشيخ في جوانب حركة أخرى، بل ركز جهده على هذا الهدف، والتوسع المدروس في نطاقه بغير تشتت، وسنتبين هذا بجلاء في الدرس الثاني.
الدرس الثاني: الكتمان وعدم استعجال التصدر
لم يُعرَف عن عزّ الدين القسّام في أوائل مسيرته في حيفا بفلسطين سوى أنه واعظ ديني وإمام بارع ومأذون شرعي في جامع الاستقلال، فقد اتخذ من أنشطته العلنية في الوعظ والتدريس ستارًا لعمله الأساسي في بناء طليعة المقاومة، واختيار الصالحين لها من بين تلاميذه ومريديه.
أمضى الشيخ سنين طويلة في اختيار العناصر وإعدادها وتربيتها، ورفض الانجرار لأي معركة قبل استكمال الاستعداد، بل إنه رفض الانجرار لمطالب المتحمسين بإعلان الثورة ردًا على أحداث حائط البراق 1929م، حتى تسبب هذا في انقسام داخلي بين صفوف الكتيبة لكنه لم يُثْنِ الشيخ عن موقفه، لأنه اتخذ القرار عن بصيرة مدروسة، لا لحماسة مندفعة قصيرة المدى.
كان القسام يعدّ ويتريّث ليضرب في الوقت المناسب بالقدر المناسب الذي وضعه هدفا نُصْب عينيه، فلبث سنين في الإعداد بغير كلل ولا ملل، لأنه كان يدرك أن الإعداد المتقن هو لب النجاح حال التصدر؛ ولم يكن ليرضى بأنصاف حلول أو بعض تجهيزات في مقابل انتصارات آنية، تكون في حقيقة الأمر خسائر لمشروعه الأصلي على المدى البعيد.
الدرس الثالث: حسن الإعداد يستجلب الإمداد
من مفاتن استعجال التصدر كثرة الأتباع والأعداد، مما يدعو كثيرا من أصحاب الفكر والمشاريع للتحديث بها قبل أن تختمر ويشتد عودها بمعتنقيها. وليس صحيحا أن الكثرة تغلب الشجاعة، بل الأصل في ديننا أن الله مع المؤمنين ولو كانوا فئة قليلة {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين[البقرة:249]، وأن الفئة الكثيرة لا تغني عنها كثرتها شيئا إذا كانت غثاء كغثاء السيل كما في الحديث "بلْ أَنتُمْ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ"، وفي القرآن الكريم {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا[التوبة:25].
ومن ثم يكون من وأد الفكر أو المشروع الإصلاحي الإسراع في إشهاره، لأن لكل جديد لذة ولكل لذة ذباب، فما ظنك ببنيان قام على أكتاف معجبين ببريقه مفتونين بجدته؟ إنهم لا يلبثون ينصرفون عنه تباعا حينما يسأمون أو يذوقون كفايتهم.
إن الانتصار بالمفهوم الإيماني عقيدة، تقوم على اليقين والثبات والتضحية، فهي من هنا انتصار، بغض النظر عما تنتهي إليه بالمقاييس الدنيوية. لقد استشهد الشيخ في نفس العام الذي بدأت فيه أوائل صولات كتيبته على الأرض، عام 1935، وحوصر معظم أفراد الكتيبة، غير أن القلة القليلة التي نجاها الله بحكمته، كانت من متانة الإعداد بحيث هيئ الله لها من أسباب الإمداد والامتداد ما نرى آثاره جلية اليوم، بعد 79 عاما من استشهاد الشيخ المؤسس والقائد المربي، مع كثير من أفراد الطليعة.
إن أصعب وأكبر وأهم تحديات أصحاب الدعوة هي إعداد الطلائع الأولى وبناء الرعيل الأول، ولنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته خير مثال. وإن المؤسس أو القائد لابد مفارقٌ صحبَه يوما، فخير ما يفعل هو أن يجعل من كل فرد قائدا، ويصنع من كل نَفْسٍ أمة. بعد ذلك تتولى تلك الطليعة تنشئة طلائع تالية، وتبث هي الفكر كما نشأ أول مرة حيا متوقدا.
أما إذا اغتر البادئ بالأتباع، وتشتت في التشعب والانتشار بين هذا وذاك بغير تخير ولا انتقاء، فإن مآل دعوته إلى زوال بزواله، بل ربما ذوت وهو بعد باقٍ لتكون حسرة عليه. وما يُلقّاها إلا الصابرون، وما يُلقّاها إلا من أخلص لله هدفه، وأخلص هدفه لله.
ويجدر التنويه هنا إلى أن أهم خلية دعوية وبعثة طليعية يمتلكها آحاد الناس في الغالب هي نواة الأسرة، فهي مفتاح فريد لكل تجديد، وكم من السلف الصالح كان لكلا الوالدين أو أحدهما الأثر الأكبر في مسيرته، كشيخ الإسلام ابن تيمية وأمه، وعائشة بنت الشاطئ ووالدها، والزبير بن العوام وأمه أسماء رضي الله عنهم. بتماسك هذه الخلية يتماسك المجتمع، وما التفكك والتمزق الحاصل اليوم في جسد الأمة إلا من تمزق خلاياه. وإنها لحسرة أن ترى كثيرا من الملتزمين مفاتيح خير للغير إلا أهلهم! وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله"، فالخيرية للأهل هي مقياس الخيرية الحقة، فمن شاء أن يزن صدقه بميزان دقيق فليعتبر بهذا الحديث. والقصد هو الاجتهاد في إصلاح هذه الخلية وإقامتها على أمر الله، ولو لم يكن من سبيل لذلك إلا بالإلحاح في الدعاء وهو سلاح المؤمن، وإن الله تعالى هو من يفتح القلوب ويهدي النفوس، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا قاسم والله يعطي". وإنّا لنرى في القرآن الكريم كيف أعطى الله الأولوية في التفصيلات التشريعية لأحكام الأسرة، في حين تحال التشريعات الأخرى مثل بيان أركان الإسلام وفرائضه الكبرى إلى السنة أو الاجتهاد. إن هذا الصنيع الرباني في حد ذاته حطاب منهجي موجه للساعين لحركات التجديد ومشروعات الإصلاح. وأي خلية تتميز بالتركيز والكتمان وحرية منهج الإعداد كهذه؟ والموفق من وفقه الله تعالى.
الدرس الرابع: الأسباب ومسببها
أحيانا يختلط مفهوم "الأخذ" بالأسباب بالتعلق بها والتشنج لها كأن بيدها الأمر كله! فنحن في حقيقة الأمر نأخذ بالأسباب بجوارحنا، فنخطط ونجهز وننظّر ونحتاط، لكن قلوبنا أبدا معلقة بمسبب الأسباب والقادر على إبدال النواميس المتعارف عليها بغيرها مما يشاء وقتما شاء. وما تلك النواميس والسنن الكونية التي تعارفنا عليها إلا مما شاء الله بحكمته أن نتعارف عليها، لكنها ليست ملزِمة له تعالى بحال. إذن من قلة الفقه تحويل "الأخذ" بالأسباب إلى تعلق بها واتكال عليها، وانتظار من الله الخبير المحيط أن يأتي بما تتوقع يا قاصر البصر!
إن المعادلة التي نحن هنا لأجلها على هذه الأرض هي أن نكون نحن على مراد الله تعالى بنا، ثم ليفعل بنا ما شاء ونحن موقنون أنه ليس لنا بظالم سبحانه، وأنّا لم ولن وما ينبغي لنا أن نحيط بأسباب حكمته تعالى، فنحن نثق بها وإن خفيت عنا حتى حين.
وقد مر معنا في الدرس الماضي كيف أن معادلات النصر الأرضية وقت استشهاد القسّام أوعزت للكثيرين أن مشروعه وُئِد في مهده، لكن الله تولاه لِمَا علم من صاحبه من صدق في سبيله، فأنبته نباتا حسنا وأي حُسْن! إنه لمن العبث أن ننفق جهودنا في المسار الغيبي الذي اختص الله تعالى به نفسه، فنظل نحسب حسابات النصر والخسارة والإقدام والإحجام بالقلم والمسطرة، ونسخط أو نتحير ونتشكك حين لا تكون النتائج كما تمنينا على الله! في حين نترك المسار الذي أمرنا بأن نتعبد لله به، ووعدنا رب العزة - ومن أصدق منه قيلا - أننا بذلك مفلحون بمقاييس السماء ولو لم نكن منتصرين بموازين الأرض! إننا مأمورون أن نجتهد ونسدد ونقارب، وفوق كل ذلك أن نصدُق الله تعالى، ليصدقنا فيُرْبِيَ أعمالنا.
"اعمل ما هو ممكن الآن ولا تنتظر تحسّن الظروف، فدائما هنالك ما يمكن عمله، ومهما تحسّنت الظروف سيظل هنالك من يرى أنها غير مهيأة بعد! مشكلتنا ليست المستحيل الذي نتمناه، لكن الممكن الذي ضيعناه. امنح نفسك وقتا كافيا لأفضل تحديد ممكن (الاستخلاص)، فستكون وسائلكم أكثر فاعلية وأنتم أكثر واقعية وإدارة أجود للإمكانات المتاحة". (د. عبد الكريم بكار)
الدرس الخامس: وإن قَل.. وإن صَغُر
إذا اتفقنا أن العبرة في ميزان الفلاح هو الصدق مع الله ولله تعالى، فلا صغير في التعامل مع أكرم الأكرمين رب العرش العظيم. احرض على اتباع السنة وتحري الشرع في كل خطوة مهما بدت صغيرة، واستبشر خيرا بأنك على درب الذين أنعم الله عليهم، رجاء أن يجعل الله مثواك معهم ومآلك لصحبتهم، وإن لم يبلغ عملك عملهم أو قدرك قدرهم، والله أمنّ وأفضل: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الأنفال:70]
لما سُئل أحد القساميين عن إصرارهم على استراتيجية العمل بالأنفاق على مشقتها وطول مداها، أجاب: "هل تعرف أنَّ من اقترح هذه الخطة هو عمر ابن الخطاب رضي الله عنه؟ ونحن نطبق ما يقول ونثق في رأيه جدًا: فقد قال لجيش كان يفتح حدود العراق: (تَخَنْدقوا بالأرض فهي أمّكم)"  
وإنَّ غزة لهي حجة الله على الناس أجمعين، فكل ما سبق من دروس كان يمكن أن تكون تنظيريا تهز عنده الرؤوس إعجابا ثم تنصرف عنه تطبيقا بألف حجة وحجة، قد ألجمها الله جميعا بما نرى اليوم رأي العيْن أن الله ينصر من ينصره، وأنه تعالى لا يضيع عمل عامل، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
الدرس السادس: متى تفكر ومتى تقدِم؟
فارق بين التفكير الذي يعني التفكر والتدبر في معرفة مراد الله منك، كما فعل الشيخ القسام في تأمل خيارات الواقع آنذاك والمقارنة بينها من حيث أنفعها للأمة؛ وبين التفكير بعد إذ هداك الله لمراده منك وبصّرك بما استيقنت في نفسك أنه الحق، وهذا تفكير التردد والإحجام. التفكير إنما يكون لتعرف مراد الله منك وكيفية الاستجابة المثلى، لا للموازنة بين الاستجابة من عدمها! لأنه بعد المعرفة واليقين، فأي تفكير أو حساب إنما هو من الشيطان والنفس الأمارة ليخذّلاك.
ويتبقى سؤال نختم به ختام المسك: كيف أعرف مراد الله مني في الحركة بهذا الدين بعد استيفاء الواجبات والأسس؟
والإجابة مهما طالت – ولعلنا نفصلها في مقال آخر - فمحورها الرئيس ومفتاحها الأكيد: اسأل من ترجو رضاه عما يرضيه منك، ألح عليه بأن يلهمك جهادك الذي يرتضيه منك، ويبصرك بسبيلك في خدمة هذا الدين العظيم، وما التوفيق إلا بالله عليه نتوكل وإليه ننيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق