الأربعاء، 26 يونيو 2013

الخلافة والملك في الحديث الشريف


يعتمد المعارضون على حديثين هما (حديث سفينة وحديث حذيفة) يعتبران عمدة احتجاجهم على ذم الملك ووجود نظام للحكم في الإسلام محدد بـ(الخلافة) اسماً لا وصفاً، وما عداهما فتبع لا إضافة فيه. وإليكم توجيه الاحتجاج وبيان مواضع الاشتباه فيه:
1. حديث سفينة
روى الإمام أحمد وغيره عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة في أُمتي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء). والحديث مختلف في صحته بسبب راويه عن سفينة وهو سعيد بن جمهان ضعفه البعض ووثقه آخرون. وصححه الألباني بشواهده.
وأما المتن ففيه شيء واحد فقط هو تحديد أجل الخلافة بثلاثين عاماً، يثم يعقبها الملك. وليس فيه بيان معنى الخلافة كنظام سياسي للحكم من حيث أسسها وأركانها وخصائصها بما يعطي المعنى المطلوب لها. ولا فيه تصريح بذم الملك، إنما ذلك وهم يتبادر إلى الذهن نتيجة التقابل بين لفظَي (الخلافة والملك) وما فيه من تعظيم مسبق للخلافة فيفهم بالمخالفة ذم ما يقابلها، ومفهوم المخالفة من أضعف الأدلة في باب الأصول. والشرع ينهى عن الذم بلا تثبت، فكيف إذا لزم منه الطعن بعصور الخلافة الإسلامية كلها بناء على وهم؟!
2. حديث حذيفة في ( الملك العضوض )
روى الإمام أحمد في مسنده عن حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تكون النُّبُوَّةِ فيكم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ). ثُمَّ سَكَتَ. صححه الألباني.
فهم المخالفون من ورود (الملك العضوض) في نص الحديث بعد ذكر (الخلافة على منهاج النبوة)، أن الملك العاض يعقب الخلافة الراشدة مباشرة بلا فصل. وهي شبهة تقوم على إشكال لغوي، يمكن إزالته بالرجوع إلى قواعد اللغة. ولطالما أُتي الناس في عقائدهم وأفكارهم من جانب التعسف في فهم اللغة، أو الغفلة عن دقائقها. وإليكم البيان:
إن هذا الترتيب بين الملك والخلافة جاء التعبير عنه بحرف العطف (ثم). وهذا الحرف في لغة العرب يفيد التعقيب مع التراخي، لا الاتصال المباشر. وذلك كما في قوله تعالى: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:52،51). ولم يحصل العفو بعد اتخاذ العجل مباشرة، إنما سبقه القتل كما أخبر تعالى فقال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54). فلا دلالة في الحديث على الاتصال بين الخلافة والملك العاض. فيحتاج المخالف إلى دليل معتبر يجيز له مخالفة الأصل اللغوي. وذلك مفقود، فبطلت الحجة، وتبين أنها مجرد شبهة. والشبهات لا تصلح لنقض الثابتات. فالمُلك نظام أقر صلاحه بالقرآن، وقامت عليه دولة الإسلام فكان تاريخها تاريخ مُلك، ومعاوية صحابي جليل كان له أعظم الأدوار في إرساء الدين وتاريخ الإسلام ونشر الرسالة وبناء الحضارة؛ فلا ينقض هذا كله بشبهة. والتأويل لصالح العدول أصل شرعي وأساس علمي. كذلك الجمع بين المختلفات، وهو أولى من إعمال بعضها بإسقاط البعض ما دام الجمع ممكناً.
أحاديث نصصت على ( الملك الرحيم ) بعد ( الخلافة على منهاج النبوة )
ثم إن الحديث السابق جاء بألفاظ أُخرى تضمنت زيادة صحيحة توسطت بين (الخلافة الراشدة) و(الملك العضوض) هي (ملك ورحمة) في روايات متعددة ينبغي الأخذ بها طبقاً للقواعد الأصولية من (قبول زيادة الثقة) و(جمع أطراف الأدلة)، منها:
- ما رواه الطبراني في (المعجم الكبير) عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ورحمة، ثم يتكادمون عليها تكادم الحمير). قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وجوّد الألباني إسناده في (السلسلة الصحيحة).
- وروى الحاكم في المستدرك وصححه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: (إن الله بدأ هذا الأمر حين بدأ بنبوة ورحمة، ثم يعود إلى خلافة، ثم يعود إلى سلطان ورحمة، ثم يعود ملكا ورحمة، ثم يعود جبروت صلعاء يتكادمون عليها تكادم الحمير).
خلافة معاوية ملك ورحمة وملك نبوة
ومعاوية أولى الناس بأن يكون عهده عهد (ملك ورحمة). قال شيخ الإسلام: (المجموع:4/478): (اتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة, وهو أول الملوك, كان ملكه ملكاً ورحمة كما جاء في الحديث (يكون الملك نبوة ورحمة ثم تكون خلافة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض) وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيراً من ملك غيره, وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة). وقال (مجموع الفتاوى:27/ 43-44): (فكان الإسلام فى الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة بالشام). فأطلق على ملك معاوية اسم (ملك النبوة).
المنهج الفاسد سبب الفهم السائد
لم أجد وراء ذم الملك والإساءة إلى سيدنا معاوية من دليل معتبر سوى المنهج الفاسد الذي يقوم على الشبهات والفهم المتعجل والكيل بمكيالين: فإذا وقع على شبهة ضد البعض طار بها، بينما يجمجم إزاء ما هو أقوى منها في حق البعض الآخر. وخذ هذا المثال دليلاً على ما أقول: فقد روى الترمذي عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (من رأى منكم رؤيا)؟ فقال رجل: أنا، رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر  فرجحت أنت بأبي بكر،  ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. وللحديث زيادة صححها الألباني: فَاسْتَاءَ لَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ: (خِلافَةُ نُبُوَّةٍ، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ).
ماذا تفهم من هذا الحديث لو حملناه على ظاهره في شأن سيدنا علي؟ لقد عقّب النبي صلى الله عليه وسلم على عهد أبي بكر وعمر وعثمان بقوله: (خلافة على منهاج النبوة)، ولقد رفع الميزان بعد سيدنا عثمان وجاء التعقيب عليه بالقول: (ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) وليس بعد عثمان سوى علي. فهل خلافة علي ملك؟ ولو كان معاوية مكان علي فماذا تتوقع أن يقول عنه الطاعنون ؟
وأزيدك نصاً صحيحاً صريحاً عن الصحابي ثمامة بن عدي والي صنعاء لعثمان في تفسير حكم علي بالملك الجبري، وذلك حين جاءته الأخبار بقتل عثمان بن عفان وما حل بالمدينة من استيلاء القتلة عليها وإكراههم الناس على بيعة علي وما شابه، فقال وهو يبكي بكاءً شديداً: (اليوم انتزعت خلافة النبوة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وصارت ملكا وجبرية، من أخذ شيئاً غلب عليه)([1]). وليس لدينا نص صريح كهذا عن صحابي يصم عهد معاوية بأنه (ملك عضوض) فضلاً عن (ملك جبري). ومع ذلك فليس من الصعب تأويل النص ليتسق مع الأدلة الثابتة في عدالة سيدنا علي رضي الله عنه، رغم كل الشواهد من وقائع تلك الفترة التي يمكن سوقها تأييداً لهذا النص الصريح. ولو اتبعنا المنهج الفاسد نفسه المتبع مع معاوية لقلنا في علي غير ما ينبغي أن يقال.
لكننا ندافع عن الحق والحقيقة أينما كانا، وعن الصحابة دون استثناء، وعن تاريخ الأمة جمعاء. وليس لنا غرض خاص في الدفاع عن معاوية خارج نطاق سد باب الدخول على الصحابة، وغير السعي في تغيير الثقافة الشيعية الشعوبية التي غزت جماهير المسلمين. 
_______________________
[1]- عبد الرزاق: المصنف 11: 447، وابن سعد: الطبقات 3: 80 بسند صحيح، والبخاري: التأريخ الكبير2: 176. منقول عن (عصرالخلافة الراشدة - محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين)، 1/442، للمؤرخ المحقق أكرم ضياء العمري، الناشر: مكتبة العبيكان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق