الاثنين، 7 ديسمبر 2015

زبدة الرفاهية وآلة الزمن

زبدة الرفاهية وآلة الزمن
بقلم رشيد ثابت



"دلِّلْ نفسك". هكذا يقول إعلان زبدة الرفاهية...

أما في قصة الخيال العلمي "آلة الزمن" لمؤلفها "ويلز" فيسافر المخترع عبر الوقت إلى المستقبل ويصل لمرحلة متقدمة جدًّا من التاريخ البشري. في تلك المرحلة كانت البشرية قد قطعت أشواطاً طويلة من التقدم المادي والانحدار الأخلاقي؛ ولأن المؤلف ابن لعصر الثورة الصناعية فقد تنبأ بالمستقبل المظلم للنوع الإنساني من خلال أمراض عصره. في عصره كان هناك عمال تسحقهم الرأسمالية بساعات العمل الطويلة والأجور المنخفضة والبعد المستمر عن أفراد أسرهم بسبب استبداد أرباب العمل ونهمهم. "ويلز" جسَّد تفاقم هذه الظاهرة لمرحلة في المستقبل يتحول فيها صنف العمال هذا إلى مخلوق قردي متوحش . "المورلوك" في رواية "ويلز" لا يعيشون إلا في معامل تحت الأرض تنتج ليل نهار؛ ويعيش على سطح الأرض مستهلكون منعمون مدللون تطوروا إلى صنف آخر من البشر المترف المرفه اسمه "الإلوي". لكن لم تكن هذه القطبية المنحازة للإلوي إلا صورة ظاهرية تخفي جحيماً مرعباً؛ فالإلوي استغنوا باجتهاد المورلوك عن القوة واستغنوا بآلات المورلوك عن استعمال عقولهم. أما المورلوك فعرفوا كيف ينتقمون من زبائن الثورة الصناعية من المستهلكين المرفهين المترفين واقتصُّوا لأنفسهم ولأبائهم وأجدادهم بأن صاروا من أكلة لحوم "الإلوي"!

كان المورلوك ينسجون ملابس زاهية الألوان للإلوي ويضمنون لهم غذاءً شهيًّا من أطايب الفاكهة؛ لكن لم يكن هذا دلالاً للإلوي بقدر ما كان المورلوك يدللون أنفسهم...

من قصة "ويلز" نتعلم أنه حين يدللك العدو فعليك أن تفهم أنه فقط يجهز لنفسه شروط وليمة أكثر إثارة وألذ مذاقاً! فلا المورلوك جاد بإسعاد الإلوي؛ ولا الفلاح الدنماركي يريد إسعاد البقرة حين يعزف لها الموسيقى في إعلان زبدة الرفاهية؛ ولا تريد الشركة الصانعة أن تدلل الجمهور العربي المغفل بزبدتها وقشدتها. هي تريد ثمن الزبدة يا أمتي الذاهلة وحسب!

والأمة التي تأكل زبدة من يحقرها ويهينها وتدفع له ثمنها بالعملة الصعبة هي أمة في حال بائسة أكثر من "الإلوي" في ثيابهم الزهرية! فهل بلغ الخور بنا مبلغاً نعجز فيه عن إعلان موقف من مواد غذائية نستطيع الاستغناء عنها بكل سهولة؟! لماذا لا تتعلم الأمة من غزة التي لا تدخلها ثلاثمائة وألف من السلع فقط! ربما لأن الهمم تقاعست وتخامدت؛ وربما لأننا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل سكتنا عن شيوع المنكر ولم نكترث بتواري المعروف؛ بل تجاهلنا وقوع الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف؛ وأخيرًا جاء في الأخبار أن أحد المحسوبين على المشايخ زورًا وبهتانًا تطوع لإعلان أن مقاطعة منتجات الدنمارك يحتاج إذنًا من ولي الأمر؛ فصار أكل الزبدة فعلاً من أفعال الطاعة والوحدة والامتناع عن مفارقة الجماعة!

في المرة الأولى لفَجْرة الصحافة الدنماركية خرجت حملة "إلا رسول الله" وكان التفاعل الشعبي والإعلامي قويًّا نسبيًّا؛ لكن لا تكاد ردود الأفعال الآن ترقى إلى عشر معشار ردة الفعل الأولى؛ مع أن الهجوم سافر ووقح أكثر من المرة الماضية بكثير! إذ يبدو أن أولويات زبدة الرفاهية تسبق ثوابت الأمة عند المعنيين من ممولي وموجهي الإعلام العربي المعروفين! ويبدو أن سقف الخَوَرْ يهوي بسرعة بحيث أن ما كان غير كافٍ ومنقوصًا منذ عام أو عامين صار موقفًا كبيرًا و"راديكاليًّا" في أيامنا الهانئة هذه!

والله العظيم لو لم تكن هناك رسوم مفحشة ولو لم يقرر الإعلام وأحزاب اليمين في الدنمارك إعلان هذه الحرب القذرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفانا عارًا أن أمتنا تشرب من ألبان الفرنجة! أمة عاش أباؤها وأجدادها أعواما عديدة وأزمنة مديدة لا ينالون شبعًا إلا من حليب الناقة؛ ولا نجد من يسقي لنا ويطعمنا اللبنة إلا في الدنمارك؟! هذا أمر لا يسوءُ التاريخ الإسلامي ورجالاته وأجياله عبر العصور وحسب بل إنه يجرح رموز الجاهلية في سويداء أفئدتهم! فيا فضيحة المهلهل التغلبي حين يعرف أن قيمة الحليب البلدي قلت أكثر بكثير عن قيمته في أيامه وأيام أخيه كليب الذي قتل في سهم أصاب ضرع ناقة البسوس! ويا لشماتة جساس بن مرة فيكِ يا تغلب!

على الأمة أن تستيقظ قبل أن تبوء بعار الدهر! وعليها أن تدع تمثيل دور "الإلوي" في دراما الهزيمة والخذلان! ولنحطم قيود الاستسلام إلى مدافن الهزيمة ولتكن البداية من الانتقام لخير من مشى على أرض محمد صلى الله عليه وسلم... أبي القاسم الذي لن تفيه الكلمات حقه وقدره ثناءً وتبجيلاً وهو الذي مدحه رب العزة وأثنى عليه بتوكيد مضاعف فقال عنه في كتابه العزيز "وإنك لعلى خلقٍ عظيم"! وليكن هذا الانتقام بمقاطعة كل ما تنتجه الدنمارك من بضائع – القائمة طويلة للأسف من الألبان إلى الحلويات والأطعمة وغير ذلك كثير – ولتعمل الفعاليات الشعبية والمشايخ والعلماء - الحقيقيون لا الكَذَبَة المفطومون على منتجات "آرلا" - على قرن استهلاك المنتجات الدنماركية بالسكوت التقريري على الإهانة الموجهة لأبي القاسم صلى الله عليه وسلم؛ على ما في ذلك من تبعات شرعية!

الدنمارك لم تنتصر لحرية الإعلام بل انتصرت لأمراض نفسها وأحقادها الصليبية ضد الإسلام – هذه الأحقاد التي لم ينفع في علاجها إلحاد القوم وتركهم لأناجيلهم وكنائسهم - ولذلك لا بد من رد هذه الهجمة بهجمة مثلها لا تقل إصرارًا؛ ولتكن الرسالة أننا قررنا أن لا ندلل أنفسنا؛ وسنخشوشن قليلاً وسندع لبنكم لكم تشربونه كله أو تريقونه على قارعة الطريق جزاء وفاقًا على فاحش صنيعكم! 

أخي المسلم: لا تدلل نفسك! وصدقني لن تخسر إلا بعض الشحوم وستكسب احترامك لنفسك ولأمتك!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق